كالعادة استقل إبراهيم سيارته بعد ظهر آخر أيام رمضان مصطحبًا أسرته الصغيرة متجهًا إلي قوسينا لقضاء أول أيام عيد الفطر مع عائلته الكبيرة.
عائلة الأستاذ السيد عيسي مدرس اللغة العربية، «وأبو مني وإبراهيم وتغاريد وعبير وشادي».
أعتقد أن سر موافقة إبراهيم عيسي علي اقتراح الأستاذ مكرم - نقيب الصحفيين - بتسليم نفسه بعد العيد فقط ليتمكن من الذهاب إلي (البلد) في العيد!
اتصلت به لأطمئن علي شكل الاستقبال.. كنت أتوقعه مليئًا بالعواطف الحزينة والمتوترة، وكنت أخشي أن يؤثر اللقاء سلبًا علي معنوياته.
- وصلتوا؟
- طبعًا.. مش سامعة؟
كانت تصلني أصوات عالية متداخلة وضحكات تشبه ضحكة إبراهيم المميزة.
- واضح أن معنوياتهم مرتفعة.. الحمد لله.
- مرتفعه؟.. جدًا .. جدًا.. بابا قال: شهرين.. بسيطة.. ومني بتقولك تحققت نبوءتي.. يعني العيلة كلها مضحية بي.
يعتقد إبراهيم أن دعوات أمه هي السبب في استمراره.. مجرد استمراره في الحياة.. وأوافقه؛ لأنني رأيت كيف كان يعتني بها أثناء مرضها وقبله، وعرفت - أكثر من كل أصدقائه مدي تأثره بوفاتها.
وأعتقد أنا أن آراء أبيه هي سر صلابة واستمرار مواقفه المعارضة.
إبراهيم لا يخشي أحدًا في الدنيا سوي الأستاذ سيد والده ومعلمه الأول. وينتظر مكالمته بقلق بعد كل حلقة من برنامجه التليفزيوني. ويحكي لي (أبويا أنِّبني لأني قلت كلمة غلط لغويًا).
ويفاجأ بمكالمة غاضبة تحريضية بعد أي حدث كبير (انتوا هتسكتوا علي اللي بيحصل ده.. اكتبوا.. أضعف الإيمان اكتبوا).
هذه العائلة كلها تتكلم بنفس الطريقة التي يكتب بها إبراهيم مقالاته: السخرية اللاذعة، الحس النقدي العالي. ولا يفلت أحد من سخريتهم ولا انتقاداتهم، بدءًا من رئيس الجمهورية وانتهاء بإبراهيم نفسه.
رغم هذا هم لا يتحملون التضحية به كما يدَّعي هو، بل يعتقدون أنه الأهم والأذكي والأشجع والأقوي، بل إنه الأجمل. (أخوات إبراهيم البنات يعتقدن أنه جميل!!)، ولا يتحملون أن يمر أسبوع دون أن يجتمعوا معًا علي مائدة طعام ثم علي شاي مع الخالات والأخوال وأولادهم وأحفادهم.
لا يتحملون التضحية به.. لكنهم لا يعتبرون الحكم بالسجن عليه تضحية.. يعتبرونه مثل الآثار الجانبية لأي دواء.. غير مرغوب فيها لكنها ليست سببًا للامتناع عن الدواء. واحتمالها أهون من احتمال المرض.
زوجة إبراهيم عيسي هي خط الدفاع الثاني، ولا تقل صلابة عن عائلته وإن كانت تبدو مختلفة. صوتها وشكلها وأداؤها كله يوحي برقة وهدوء وهي بالفعل كذلك.