[b] إذن فهذه الدعوة النبوية تعلّمنا أن نرجو من الله أن يعيننا على أن لا نحزن على الماضي وأوجاعه،
[b] ولا ننشغل بحمل همّ المستقبل ومشاكله،
[b] ويدعونا باقي الحديث للاستعانة بالله أيضاً من العجز والكسل،
[b] والجبن والبخل، وقسوة الدين وبأن يصبح الرجل مغلوباً على أمره..
[b] وهذه كلها مواقف صعبة لا يرجو أحد أن يوضع في أحدها...
[b] ولكن لنرجع إلى المقطع الأول في الحديث؛
[b] فقد يقول قائل عن المعنى الذي شرحناه عن هذا المقطع:
[b] إذا كان هذا هو الهمّ، وذاك هو الحَزَن؛ فماذا بقي لنا؟
[b] نقودك السائلة هي اليوم !!
[b] هذا هو بيت القصيد، لقد بقي لنا اليوم بأكمله، وطالما نجحنا في تجنّب آثار الماضي،
[b] ولم ننشغل بهموم المستقبل؛ فإن اليوم بات مفتوحاً على مصراعيه لنعمل من خلاله ونُنتج.
[b] وبالطبع ليس المقصود بتجاهل آلام الماضي ألا نتعلم منه ونستفيد من رصيد خبراتنا،
[b] ولا المنشود من عدم الانشغال بهموم الغد ألا نخطط للمستقبل؛
[b] ولكن المطلوب ألا نفكر سلبياً أو طويلاً لا في الأمس ولا في الغد؛
[b] فالأمس هو شيك فات ميعاد صرفه والغد هو شيك مؤجل الدفع، والسيولة المتاحة لك هو اليوم ,
[b] هذا الكلام عرفه علماء النفس مؤخراً، وتاهوا به فخراً،
[b] وراحوا ينظرون له وكأنهم اخترعوه من العدم،
[b] وأظنهم سيفاجئون عند معرفتهم بأن ما فعلوه ما هو إلا إزاحة الأتربة من حول كنز دفين
[b] تركه لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ولكننا -وكعادتنا مع الكنوز النبوية- تركنا الأتربة تغطّيه..
[b] ولْنرَ كيف أفاد هذا الحديث نبينا في حياته الحافلة بالأحداث والمواقف..
[b] لم يوقفه الحَزَن ولا شتّته الهمّ
[b] فقد وُلد يتيماً وتوفّيت والدته صغيراً،
[b] ولم يطُل بقاء جده الذي رعاه سوى أعوام معدودة..
[b] ومن جرّب اليُتم المزدوج من الأب والأم،
[b] والعيش في منزل آخر به أولاد آخرون للأسرة صاحبة البيت،
[b] وهو لم يتوقف طويلاً ليحزن على عدم انصهاره مع أقرانه من شباب مكة عندما ينطلقون للهو واللعب،
[b] لم يَلُم نفسه على عدم قدرته على التوافق معهم في عبادة الأصنام، ولم يقُل: إذا كان الكل يفعل ذلك؛ فأنا المخطئ.
[b] وعندما نزل عليه الوحي بغار حراء، وبشّره "ورقة بن نوفل" بأنه نبي هذه الأمة،
[b] ومزج البُشرى بتحذير من خطورة القادم، وأبلغه بأن قومه مخرجوه من دياره ووطنه..
[b] ومع استعجابه المتمثل في قوله: "أَوَ مُخرجيَّ هُمْ؟"
[b] لم يترك نفسه للتفكير في توقيت هذا الإخراج وكيفيته،
[b] ولم يتوقف عن الدعوة في مكة طوال ثلاثة عشر عاماً،
[b] وكان من الممكن أن يتذرع بأنه سيُطرد منها؛
[b] فلماذا يُجهد نفسه، وليوفر هذا المجهود لبلد آخر تقدر دعوته..
[b] وهذه الحجة من الحجج المشهورة التي كثيراً ما نتّخذها ستراً لكسلنا،
[b] ونجعل من التفكير السلبي في الغد عائقاً لنا يمنعنا عن الحركة اليوم!
[b] ومن التجليات النبوية التي قام بها صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر،
[b] عدم تفكيره في الغد بناء على التجارب الصعبة في الماضي،
[b] والتي كان من الممكن أن تتمثل في خوفه من ردّ فعل أهل المدن الأخرى
[b] التي يدعوها ليهاجر إليها بدعوته،
[b] بعد أن كذّبه أهلها وعشيرته؛
[b] فالتفكير بهذة الطريقة السلبية يدفعنا أحياناً إلى أن نتوقف ونتراجع
[b] لنُعلن ونحن نتقمّص لهجة أهل الخبرة:
[b] إذا كان الأصدقاء قد كذبونا وخذلونا؛ فكيف للغرباء أن يصدقونا وينصرونا؟!
[b] لكن -والحمد لله- الرسول القدوة لم يفكّر على شاكلتنا، وقام بأصوب الأفعال،
[b] وضرب أعظم الأمثلة على التحرك بكل قوة في حدود اليوم،
[b] والاستفادة من كل ما نملك من صحة وعزيمة وأموال وأفكار؛
[b] حتى لو تفاوت ما نملكه من رصيد في هذه النقطة أو تلك.
[b] ولا نجعل من أحزان الماضي مقبرة نحفرها بأيدينا لأنفسنا، ثم نهيل علينا التراب،
[b] وذلك عن طريق بعض الخطوات ومنها:
[b] - التوقّف عن حمل تجارب الماضي الفاشلة، أو تذكّر غدر الأصحاب -أو من كنا نظنهم كذلك-
[b] لأن السير للأمام حاملين تلك الحمولة الثقيلة،
[b] - ضع مخططك بأهداف المستقبل، وتخيّل صورتك في الغد؛
[b] ولكن لا تترك لنفسك العنان لتفكّر في احتمالات فشلك في تحقيقك تلك الأحلام؛
[b] فبعد أن وضعت الأهداف ملتزماً بشروطها الصحيحة، فالأولى أن تهتمّ بالتنفيذ.
[b] - احصر جُلّ جهدك، واستغلّ معظم إرادتك في إنجاز عمل اليوم على خير وجه؛
[b] فهذا هو أفضل سبيل، وأقصر طريق لصنع المستقبل الذي تتمناه .